الخيارات المتبقية للحركة الإسلامية في مواجهة السيسي


بعد مرور أكثر من عامين على أحد أشرس الانقلابات الدموية في تاريخ المنطقة العربية، على أول رئيس مصري منتخب من قلب الحركة الإسلامية، يبقى التساؤل ماثلا، هل مازال خيار المواجهة هو الحل بالنسبة للإخوان ومناصريهم؟ وما هو الشكل الذي سيؤول إليه الحراك بعد تراجعه الملحوظ في الشارع، وانتشار الخلافات داخل الصف الإخواني بشكل أصبح مسموعا لدى من هو داخل الحركة، ومن هو خارجها، حول الخيار الأنسب لمواجهة الانقلاب العسكري؟

مر السيسي بمراحل هامة عدة في مهمة تثبيت انقلابه، الأولى كانت حشد الجماهير وتجييشها ضد معارضي بيان الانقلاب عبر التفويض وما تلاه، والثانية كانت بداية المذابح ليرسل رسالة للداخل والخارج أن مسألة الانقلاب ليست مجرد خيار سياسي قابل للتفاوض، وليقطع تماما طريق الرجعة فيه عبر آلاف الجثث وآلاف المصابين وعشرات آلاف المعتقلين، وهذا إعلان جاد بأن الداخل والخارج أمام شخص ربط مصيره بمصير الانقلاب، ومستعد لذبح المزيد إذا اقتضى الأمر، والثالثة كسب معركة شرعية الانتخاب "الشكلية" ولو بالتزوير، أو بالإخراج المسرحي، ومن ثم التحول لصيغة الرئيس المنتخب.

وهذه إجراءات شكلية، يطلبها داعمون دوليون، لكي يتم اعتماد أوراقه في تجمعاتهم، أما الرابعة فكانت صياغة المشروعية "الاقتصادية" الخاصة بالإنجاز مجموعة من المشاريع العملاقة ظاهريا، التي تعد بمثابة ضمانة استمرار له، من حيث كونها خلق للأمل الشعبي، ولو كان كاذبا.

على الجانب الآخر، واجه الإخوان وحلفاؤهم هذه المراحل المنظمة من قبل السيسي لتثبيت حكمه بالمسار الاحتجاجي الذي استعار نمط يناير في بدايته، من حيث المظاهرات المليونية الضخمة التي سرعان ما انكسرت أمام الاستخدام المفرط لقوة السلاح.

واستعاض عنها الإخوان بالتحركات الصغيرة في الحواري والشوارع الضيقة، لتشتيت آلة البطش، لكن هذه أيضا تراجعت مع طول المدة بشكل ملحوظ، رغم أنها استمرت لما يقرب السنتين، في صمود كبير أمام آلة القمع، ثم لجأت تجمعات إخوانية في المحافظات للعمل النوعي، وإن بدا غير مدروس ودون مظلة سياسية توجهه بشكل دقيق، وسرعان ما تم رفع الدعم لاحقا عن هذه التشكلات، من قبل مجموعة القيادة في الخارج، نظرا للخلاف الدائر حاليا في الجماعة، حول العمل الثوري والسلمي.

لجوء الإخوان للخيار الثوري كان متأخرا، وعارضا، ولم يكن تحولا حقيقيا ذا أبعاد منهجية، بقدر ما كان تنفيسا "ثأريا"، توسع ثم انكمش لأسباب متعددة، ويبدوا أن هذا الخيار لم يعد يمثل توجها لدى القيادة الجديدة "القديمة" للإخوان، التي عادت للمشهد مجددا، لضبط إيقاع الحركة، وفق رؤيتها، حيث كانت ترى في هذا التحول شبح التنظيم الخاصة، والفوبيا التي تعلق منه في ذاكرة الجماعة التاريخية التي أصبحت تتحكم بحاضرها ومستقبلها.

وكذلك يبدو أن محاولات الإصلاح الكثيرة وفرض التحول على الجماعة فشلت، وتراجعت سريعا أمام عودة جيل الكبار مجددا، مؤكدين على استمرار النهج "السلمي"، ورفض أي مسار ثوري حقيقي أمام السيسي.

وبالتعاطي مع معطيات الواقع التي تذهب في نهاية الطواف إلى وصول السيسي لمرحلة من الأمان السياسي المستمدة من نيله اعترافا دوليا واسعا، وامتلاكه لخصم أليف يعرف حدود المواجهة ولا يتجاوزها، ما يمكن معه استئناسه لاحقا أو احتوائه عبر سلسلة من عمليات القمع ثم التهدئة المتدرجة، التي تؤول بالخصم إلى الموت البطي مجتمعيا وسياسيا، ومع اقتراب انتخاب برلمان جديد، سيكون بوقا جديدا للسيسي، ما يكمل لديه أركان السلطة، ويعدّ امتدادا لبناء شكل سلطوي مستقر للحكم.

وفق كل هذه المعطيات، فاعتبار أن مواجهة لنظام السيسي بنموذج الذي تطرحه قيادة الإخوان الآن هو ضرب من تجاوز الواقع أو العبث غير المجدي، وربما يمكن تعريفه بكونه تحولا تدريجا للسكون، حيث استنفد الحراك السلمي كل مسوغاته، وعقم عن تقديم أي إنجاز ملموس لجماهيره، والمعروف أن أي وسيلة تعجز عن تقديم نتائج برغم استخدامها بشكل مستمر، تفقد أسباب بقائها.

وعليه، يكون أمام الإخوان بهذا الشكل خيارات عدة، أكثرها منطقية هو "الهدنة"، وهو الاسم الأكثر تهذيبا لمصطلح "استسلام"، ومعناه إعلان الحركة إيقاف أنشطتها المعارضة، أو المساومة بها، دون اعتراف رسمي بالنظام الحالي، مقابل ملف المعتقلين، وهذه مقايضة حرص عليها النظام من خلال الاحتفاظ بأكبر قدر من المعتقلين داخل سجونه.

والهدنة هنا كانت ستكون خيارا جيدا في حال افتعل الإخوان فوضى عنيفة، ثم وضعوها على طاولة التفاوض، بمنطق "سيب وأنا سيب"، إلا أنها الآن أصبحت بلا طاولة من الأساس، حيث يظهر السيسي بمظهر عدم المكترث لكل حراك الإخوان في الشارع.

والخيار الثاني، وهو "الاعتراف" بالنظام السياسي الحالي، وبما تقرر عن بيان 3 يوليو، وبشرعية السيسي السياسية، وهذا الخيار سيكون في مضمونه نهاية للإخوان أنفسهم، ولا أظن أنهم يقدمون عليه، إلا أننا أوردناه من باب ذكر جميع الخيارات المتاحة وهذا أحدها.

ويسعى السيسي منذ الانقلاب إلى نيل مثل هذا الاعتراف من الإخوان، مع إعلان انسحابهم من الحياة العامة تماما، وحل الجماعة والحزب، وهذا يعدّ إعلان هزيمة كامل أيضا، لكنه أشد من الهدنة.

يتبقى الخيار الثالث والأخير أمام الإخوان، وهو متمحور حول تأسيس جديد للجماعة، لا يتحجج بالوقت ولا بالزمان ولا بالمكان، يكون في مضمونه بعث جديد للحركة الإسلامية، وفق معطيات الشرق الأوسط الحالي، تعيد فيه الحركة تعريف ذاتها وتصوراتها عن نفسها وعن المحيط، وإعادة بناء هياكل جديدة تتوافق والواقع الجديد، كون أن الشكل الحالي للجماعة هو ابن مرحلة التلمساني وما بعدها، حيث مركزية العمل الخيري والنقابي والسياسي، وانعدام العمل الثوري.

أما الجسد الجديد، فيجب أن يكون مبنيا على سيولة الواقع الحالي، وغياب العمل السياسي، وصعود منطق المواجهة، مع الحفاظ على التوازن في جوانب العمل ما بين الإدارة السياسية والعمل الثوري، الذي يضع الجماعة على طاولة محصلة القوة، ما يمنحها موقعا تفاوضيا وسياسيا ذا بال.

كما أن الخيار الثالث يجب أن يكون مبنيا على تأسيس فكري جديد يستوعب ما ستؤول له التجربة الإسلامية من تحديات تتجاوز القطر المصري، وتجيد فيه اللعب بالتوازنات واختراق مساحات الفراغ وتصدير الخطاب الفكري والديني والدعوي الرديف، المنبثق عن صياغة فكرية لدور الإسلام في المنطقة والعالم، حيث هو مركز تصورات الإسلاميين جميعا، وليس مجرد أداة سياسية لحزب أو جماعة، مع توظيف كافة أشكال القوة الممكنة التي تستخدم أدوات للمشروع الفكري والسياسي والديني الجديد، وليس الوجه الوحيد للمشروع.

وهذه التجربة متاحة جدا، وأمامها فراغات كثيرة لتملأها، ولكن كل هذا مرهون بتجاوز كل صيغ الماضي، والتعامل مع الواقع وفق ما سيؤول إليه في المستقبل.

دون ذلك سيعدّ استمرار التظاهر مسألة "قصور ذاتي" لسد نقص الجواب عن سؤال ماذا نفعل؟

فبدون التظاهر لا يملك الجيل القديم أجوبة كثيرة للواقع، ولا مشروعا دعويا حقيقيا، ولا مشروعا سياسيا ذا بال، وعليه فإيقاف العمل ووقف نزيف الدم المهدور على طريق العبث سيكون خيرا من استمرار العبث مع ارتفاع التكلفة دون مقابل.

Reply · Report Post